كانَ يُدْرِك، عندما ضَغَطَ على زِناد مسدَّسه، أنَّه، إنْ وُفِّقَ في طَلقَته، سيَقْتُلُ مَن سيَغْدو، إلى المَمات، ضَحيَّتَه. كما كانَ يُدْرِكُ أنَّه، بطَلقَته الصَّائِبَة تلك، سيُوَدِّعُ أعوامًا من الشَّقاء، إذْ ما سيَنالُه من فِعلَته، سيَكفيه لأعوامٍ من الهَناء، ومَن يَدْري، قد يؤهِّلُه لِغِنًى يورثُه أجيالاً إنْ هو أَحْسَنَ إدارةَ ما سيَجْني.
دَقَّقَ في مَسار رصاصته، إذًا، ورَمى، فأَصابَ وأَرْدى. ثمَّ تَمَكَّنَ من الفِرار، واخْتَبَأَ حتَّى تَأَكَّدَ من سلامته، فقَبَضَ ما بَقِيَ له لدى مَن دَفَعَه إلى الجريمة. وأَحْسَنَ إدارةَ ما قَبَض، فاغْتَنى، وما بَرِحَ يَزْدادُ غِنًى إلى أنْ بَزَّ مَن كَلَّفَه مهمَّةَ القتل ثَراءً. وإذ طُوِيَ ملفُّ الجريمة قانونًا، وافْتَكَرَ المَوْتُ المُحَرِّضَ عليها، غَدا القاتِلُ طَليقًا من أيِّ قَيْد، وتابَعَ حياةً طبيعيَّة، فتَزوَّجَ ورُزِقَ أولادًا، لا بَل جَعَلَ من حياته مِثالاً يُحْتَذى بالسِّيرة الحَسَنَة المُكَلَّلَةِ بأعمال الخَير.
غَدا قاتِلُنا طَليقًا، إذًا، أو هذا ما خُيِّلَ له. ومَضى الزَّمَنُ طويلاً بحيثُ نَسِيَ صاحبُنا ما اقْتَرَفَتْ يدُه، ومَضى سَريعًا أيضًا بحيثُ اقْتَرَبَ القاتِلُ نَفسُه من سلوك دَرْب القَبر الَّذي كانَ نَوى أنْ يَأْخُذَ سِرَّه إليه، ومعه.
ولكن، هناك، على دَرب القَبر، صَحا ضميرُ القاتل: إلى أين، عزيزي، أنتَ مُزْمِع؟ تَتْرُكُ الحَياةَ وفي ماضيك وَصمةُ عار؟ جريمة؟ أَقَتَلْتَ بريئًا أم مُستَحِقًّا المَوْتَ بحَسَبِ العُرْفِ البَشَريِّ المُتَغَيِّر، فأنتَ قاتل. هَيَّا ابْحَثْ عن مَخرَجٍ لمُلاقاة رَبِّك؛ وإنْ كانَ إيمانُك في مكانٍ آخر، فابْحَثْ عنه لإراحَتي، أنا ضميرَك.
فَتَّشَ الغَنيُّ الَّذي عادَ، بالنِّسبة إلى ذاته، مُجَرَّدَ مُجرِم، عن حَلٍّ يُريحُ ضميرَه من دون أنْ يَمَسَّ بالسُّمعة الطَّيِّبة الَّتي بَناها مع السِّنين، فلَم يُوَفَّق. وإذْ خافَ من اللُّجوء إلى أَصدَق أصدقائه خوفًا من انكِشاف سرِّه، قَصَدَ الشَّاعِرَ لِما سَمِعَه عنه من حِكمة، ولاسيَّما أنَّه كانَ على غير دينه ومن غير منطقته، طالِبًا عَونَه من دون أنْ يُفصِحَ له عن اسمه الحقيقيّ.
أَسَرَّ المُجرِمُ واسْتَمَعَ الشَّاعِر، فكانَتْ جريمة، وكانَتْ مُعاناةُ ضمير، نَصَحَ الشَّاعِرُ المُجرِمَ، عندَ نهاية روايتهما، بالتَّعويضِ على عائلة مَن قَتَلَ من المال الَّذي جَمَع، تحقيقًا لبَعض عدالةٍ اجتماعيَّة، والإفصاحِ أمام المَلإِ أنَّه هو هو مَن قَتَل، وأنَّ فلانًا هو هو مَن دَفَعَه إلى القَتل، تحقيقًا لبَعض إراحة ضمير.
شَكَرَ القاتلُ الشَّاعِرَ على نُصحه، ووَعدَه بتنفيذ ما ارْتَأَى، ثمَّ انْطَلَقَ إلى زاويةٍ هادئةٍ على رَصيف ضفَّة النَّهر الَّذي يَشْطُرُ المدينةَ الَّتي يَسْكُن، في محاولةٍ منه لاستِجماع أفكاره. وإذْ هو اسْتَجْمَعَها، ووَجَدَ أنَّ الإفصاحَ عن جريمته لم يَعُدْ يُكَلِّفُه العقابَ لمرور الزَّمن، فيما الإفصاحُ نَفسُه كفيلٌ وحدَه بإراحة ضميره، قَرَّرَ تنفيذَ ما نَصَحَ الشَّاعِرُ به في أقرب وقت، وأَحَسَّ بشعورٍ غريبٍ من الرِّضاء على الذَّات لَم يَعْهَدْ مثلَه مُذِ اقْتَرَفَ جريمتَه.
وهناك، على الرَّصيف، وفيما صاحبُنا يَتَلَذَّذُ براحة البال حتَّى قبل الإفصاح عن جريمته، سَمِعَ إطلاقَ رصاص، وما كادَ يَتَبَيَّنُ سبَبَ ما عَكَّرَ عليه صَفوَ هَنائه، وعلى المدينة هُدوءَ ليلةٍ مُقْمِرَة، حتَّى خَرَّ، فيما الشُّرطةُ تُطارِدُ بعض المُجرمين، فدَفَعَ عن طريق الخَطإِ ثمنَ جريمة غَيره، تارِكًا في ضمير قاتلٍ جديدٍ غلطةَ عُمر.
ماتَ ولَم يُمْهِلْه الزَّمنُ للإفصاح عمَّا اقْتَرَفَتْ يدُه؛ لكنَّه ماتَ مُطمَئِنًّا. وأمَّا الشَّاعرُ فأرَّخَ ما حَصَل.